العلمانية هي نتاج صراع مرير، ومخلفات عقود من المعاناة عاشها الغرب المسيحي في ظل أوضاع غاية في التخلف والقسوة ، وليس العجب في تلك الأوضاع من حيث هي، ولكن العجب في ارتباط تلك الأوضاع المأساوية بالدين ، فقد غدت الكنيسة في الغرب المسيحي مصدرا للظلم ومُعِينَاً للظالمين، وهي في ذات الوقت مصدر للجهل، وانتشار الخرافة والدجل ، وأصبح رجال الدين ( الاكليروس ) عبئا ثقيلا، وكابوسا مريعا، يسومون الناس سوء العذاب فكريا وماليا وجسديا، فقد كانت الكنيسة سندا قويا لرجال الإقطاع، بل كانت هي أعظم الإقطاعيين، الذين يستعبدون العامة فيستخدمونهم وأولادهم في العمل في أراضيهم ويفرضون عليهم قيودا وشروطا وإتاوات، جعلت من حياتهم جحيما لا يطاق، ليس أدنى تلك القيود حرمانهم وأولادهم من العلم، وأخذ جزء كبير من محصول الأرض التي يحرثونها، واستباحة الإقطاعي زوجة العامي في ليلتها الأولى، فإذا ما انتقلنا إلى جانب الخرافة فنجد أن الكنيسة قد رسَّخت في الناس الخرافة باسم الدين، فهناك صكوك الغفران التي يشتريها العامة مرغمين في بعض الأحيان، والتي بمقتضاها تزعم الكنيسة أنه يُغفر للإنسان ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وهناك العشاء الرباني وهو عبارة عن وجبة خبز وخمر يأكلها العامي ، ليتَّحِد بالمسيح حسب زعم الكنيسة، فليس الخبز - حسب زعمهم- سوى لحم المسيح ، وليس الخمر سوى دمه، في خرافة يأبى العقلاء تصديقها.
وأما تعامل الكنيسة مع من يخالفها في معتقداتها فهو العذاب والتنكيل والاتهام بالهرطقة " الكفر "، فعندما برزت بعض النظريات المتعلقة بحركة الأرض، وكرويتها على يد العلماء، قامت الكنيسة بالتنكيل بهم، فحرقت ، وسجنت ، وقتلت، في محاولة منها للحفاظ على سلطانها القائم على الخرافة والدجل، كل هذا وغيره دفع الناس إلى التمرد على سلطان الكنيسة، بغية الخلاص من بطشها وجبروتها، وولّد في نفوسهم شعورا عارما باحتقار الدين والنفور عنه ، فكان من نتاج ذلك أن ظهر الإلحاد كإطار عقدي في البعد عن إله الكنيسة ، وظهرت العلمانية كإطار عملي في البعد عن سلطان الكنيسة، واندفع الناس في هذين الإطارين حتى نادى بعضهم قائلا : " اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس " ، لقد كانت ردة الفعل مندفعة ومتهورة ، لأن كبت الكنيسة كان قاسيا وطويلا .
- تعريف العلمانية :
العلمانية هي ترجمة لكلمة ( سكيولاريزم secularism ) وقد استخدم هذا المصطلح بداية في معنى محدود الدلالة يشير إلى علمنة ممتلكات الكنيسة بمعنى نقلها إلى سلطات غير دينية، إلا أن معنى الكلمة اتسع بعد ذلك على يد "جون هوليوك" فعرّف العلمانية بأنها: " الإيمان بإمكانية إصلاح حال الإنسان من خلال الطرق المادية، دون التصدي لقضية الإيمان بالقبول أو الرفض " عن كتاب العلمانية تحت المجهر ص 12.
غير أن هذا المفهوم للعلمانية تقلص كثيرا عند مفكرين آخرين ليصبح معناه فصل الدين عن الدولة ( separation of church and state ) وهو من أكثر التعاريف شيوعاً سواء في الغرب أو في الشرق، وهو يعني " فصل المؤسسات الدينية ( الكنيسة ) عن المؤسسات السياسية ( الدولة ) " وبذلك تحصر العلمانية في المجال السياسي وربما الاقتصادي فحسب .
ثم إن هذا المفهوم تطور فيما بعد، وأصبحت العلمانية تعني البعد عن الدين واعتباره علاقة روحية محصورة في المسجد أو الكنيسة، ولا علاقة له بشؤون الحياة العامة والخاصة.
ونستطيع أن نخرج من تعريف العلمانية، وبيان أسباب نشأتها في أوروبا بأمرين غاية في الأهمية :
الأول فيما يتعلق بالتعريف، فنقول : إن العلمانية تشكل تناقضا صريحا للدين، وتمثل منازعة حقيقية للسلطة الإلهية، فبينما تعطي الأديان السماوية السلطة خالصة لله سبحانه في تصريف الكون والإنسان، نجد في المقابل العلمانية تضع ذلك في يد الإنسان نفسه، فهو من يشرّع لنفسه ويضع لها النظم والقوانين، وهو من يحدد لنفسه قِيَمَ الخير والشر ، والمصالح والمضار ، في غنى تام عن الدين ، ونظرا لهذه التناقض الصريح والتنافر الكبير بين الأديان عامة - والدين الإسلامي خاصة - وبين العلمانية نص العلماء على أن العلماني بهذا المعنى خارج من الدين، مارق منه .
الأمر الثاني : ما يتعلق بأسباب ظهور العلمانية في المجتمع الغربي، وهي وإن كانت أسبابا قد تكون موضوعية إلا أن تلك الأسباب كان ينبغي أن تدفع المسيحي إلى البحث عن الدين الحق، لا أن تدفعه إلى الإلحاد ومعاداة الدين .
وأمر آخر ينبغي التذكير به، وهو أن تلك الأسباب التي أدت إلى بروز العلمانية في المجتمع الغربي، لم يكن لها وجود ألبتة في الشرق الإسلامي، فالدين الإسلامي ليس كالنصرانية المحرفة ، وعلماء الإسلام لم يكونوا إقطاعيين ظلمة كرجال الدين المسيحي، وموقف الإسلام من العلم ليس موقفا مصادما للعلم كموقف الكنيسة، بل موقف الإسلام من العلم موقف الحاث عليه، الداعي إلى الاستزادة منه، والبحث عنه، ما دام نافعا للناس في دينهم ودنياهم، وهو في ذات الوقت دين ينكر الخرافة ويحاربها، ويعلي قيمة العقل على خلاف تعاليم الكنيسة .
فالإسلام دين عقيدة وشريعة استوعبت مجالات الحياة وحكمتها، في حين أن النصرانية المحرفة خالية إلى حد كبير من المجال التشريعي، فهي جانب روحي أخلاقي، وعليه فمن الطبيعي أن يبحث الناس على تشريعات تنظم حياتهم وسلوكهم، وهو ما لم يجدوه في النصرانية المحرفة، كل هذه الأسباب التي أدت إلى ظهور العلمانية في الغرب المسيحي، لا يوجد منها سبب في الشرق الإسلامي، والسؤال الذي يفرض نفسه هنا ما دام أن الأسباب التي أدت إلى ظهور العلمانية في الغرب لم يتوافر ولو بعضها في الشرق الإسلامي فلماذا تُفرض علينا ، ونساق إليها ، وفي ديننا غنية وكفاية.
- العلمانية والحياة:
على المستوى الإجتماعي او العلاقات البشرية فإن العلمانية تقوم على أن لا تحكم المعتقدات الدينية العلاقات الإجتماعية وطريقة حل أفراد المجتمع الخلافات الإجتماعية. فعلى سبيل المثال، يضع المسلم في حسبانه احتساب الأجر من عند الله عندما يعود أخاه المسلم المريض بالإضافة إلى رفع روحة المعنوية . بينما يكون الدافع في عيادة المريض في المجتمع العلماني هو رفع روح المريض المعنوية لمساعدته على التشافي بوقت أسرع دون النظر للثواب الأخروي بالضرورة.
ومن جانب إداري، تحرص الدول العلمانية على فصل الدين عن تشريع الدولة وإدارة العملية القضائية بقوانين بشرية عوضاً عن التشريعات السماوية سواء كانت مسيحية أو إسلامية أو خلافهما. فنجد ان الولايات المتحدة تمنع تدريس المواد الدينية في مدارسها العامة لتعارض تدريس تلك المواد مع الدستور الأمريكي العلماني الداعي لفصل الدين عن الدولة. ويطلق الكثير من معارضي العلمانية وخاصّة المتدينون لقب "الكفّار" على العلمانيين لمناداتهم بنظام إداري علماني بينما يصّر العلمانيون أنهم مسلمون أو مسيحيون لبّاً وقالباً في كنائسهم ومساجدهم ولكن ليس في ردهات المحاكم أو إختيار حاكم للبلد.
ويستشهد العلمانيون بأوروبا في العصور الوسطى بفشل النظام الشمولي لما بلغت إليه أوروبا من تردي عندما حكمت الكنيسة أوروبا وتعسّفها تجاه كل صاحب فكر مغاير لها. ولذلك فهم يرتئون أن الكنيسة لا يجب أن تخرج من نطاق جدران الكنيسة لتتحكم في قوانين الميراث والوقوف في وجه النهضة العلمية ونعتها بالسحر إبّان العصور الوسطى. بينما ينادي خصوم العلمانية ببطلان تلك الحجة والإستدلال بالنهضة العلمية وإنتشار الفلاسفة والأطباء العرب وعلماء الفلك في عهد الخلافة الأموية وما لحقها من خلافات والتي كانت تستند على القرآن كمصدر لإدارة شؤون الخلافة الإسلامية
- العلمانية وشموليتها:
تميز بعض الكتابات بين نوعين من العلمانية: الجزئية والشاملة.
- العلمانية الجزئية
هي رؤية جزئية للواقع لا تتعامل مع الأبعاد الكلية والمعرفية، ومن ثم لا تتسم بالشمول. وتذهب هذه الرؤية إلى وجوب فصل الدين عن عالم السياسة، وربما الاقتصاد وهو ما يُعبّر عنه بعبارة "فصل الدين عن الدولة"، ومثل هذه الرؤية الجزئية تلزم الصمت حيال المجالات الأخرى من الحياة، ولا تنكر وجود مطلقات أو كليات أخلاقية أو وجود غيبيّات وما ورائيات، ويمكن تسميتها "العلمانية الأخلاقية" أو "العلمانية الإنسانية".
- العلمانية الشاملة
وهي رؤية شاملة للواقع تحاول بكل صرامة تحييد علاقة الدين والقيم المطلقة والغيبيّات في كل مجالات الحياة. ويتفرع عن هذه الرؤية نظريات ترتكز على البعد المادي للكون وأن المعرفة المادية المصدر الوحيد للأخلاق وأن الإنسان يغلب عليه الطابع المادي لا الروحي، ويطلق عليها أيضاً "العلمانية الطّبيعية المادية" (نسبة للطّبيعة والمادة).
ويعتبر الفرق ما بين العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة هو الفرق بين مراحل تاريخية لنفس الرؤية، حيث اتسمت العلمانية بمحدوديتها وانحصارها في المجالين الاقتصادي والسياسي حين كانت هناك بقايا قيم مسيحية إنسانية، ومع التغلغل الشديد للدولة ومؤسساتها في الحياة اليومية للفرد انفردت الدولة العلمانية بتشكيل رؤية شاملة لحياة الإنسان بعيدة عن الغيبيّات ، وأعتبر بعض الباحثين العلمانية الشاملة هي تجلي لما يطلق عليه "هيمنة الدولة على الدين".
- العلمانية والعالم الإسلامي:
ورغم انبثاق مصطلح العلمانية من رحم التجربة الغربية، إلا أنه انتقل إلى القاموس العربي الإسلامي، مثيراً بذلك جدلا حول دلالاته وأبعاده. والواقع أن الجدل حول مصطلح العلمانية في ترجمته العربية يعد إفرازاً طبيعياً لاختلاف الفكر والممارسة العربية الإسلامية عن السائد في البيئة التي انتجت هذا المفهوم، لكن ذلك لم يمنع المفكرين العرب من تقديم إسهاماتهم بشأن تعريف العلمانية. وتختلف إسهامات المفكرين العرب بشأن تعريف مصطلح العلمانية، فعلى سبيل المثال:
يرفض المفكر المغربي محمد عابد الجابري تعريف مصطلح العلمانية بإعتباره فقط فصل الكنيسة عن الدولة، لعدم ملاءمته للواقع العربي الإسلامي، ويرى استبداله بفكرة الديموقراطية "حفظ حقوق الأفراد والجماعات"، والعقلانية "الممارسة السياسية الرشيدة".
في حين يرى د. وحيد عبد المجيد الباحث المصري أن العلمانية (في الغرب) ليست أيديولوجية -منهج عمل- وإنما مجرد موقف جزئي يتعلق بالمجالات غير المرتبطة بالشئون الدينية. ويميز د. وحيد بين "العلمانية اللادينية" -التي تنفي الدين لصالح سلطان العقل- وبين "العلمانية" التي نحت منحى وسيطًا، حيث فصلت بين مؤسسات الكنيسة ومؤسسات الدولة مع الحفاظ على حرية الكنائس والمؤسسات الدينية في ممارسة أنشطتها.
وفي المنتصف يجيء د. فؤاد زكريا -أستاذ الفلسفة- الذي يصف العلمانية بأنها الدعوة إلى الفصل بين الدين و السياسة، ملتزماً الصمت إزاء مجالات الحياة الأخرى (الاقتصاد والأدب). وفي ذات الوقت يرفض سيطرة الفكر المادي النفعي، ويضع مقابل المادية "القيم الإنسانية والمعنوية"، حيث يعتبر أن هناك محركات أخرى للإنسان غير الرؤية المادية.
ويقف د. مراد وهبة - أستاذ الفلسفة- و كذلك الكاتب السوري هاشم صالح إلى جانب "العلمانية الشاملة" التي يتحرر فيها الفرد من قيود المطلق والغيبيّ وتبقى الصورة العقلانية المطلقة لسلوك الفرد، مرتكزاً على العلم والتجربة المادية.
ويتأرجح د. حسن حنفي-المفكّر البارز صاحب نظرية اليسار الإسلامي- بين العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة ويرى أن العلمانية هي "فصل الكنيسة عن الدولة" كنتاج للتجربة التاريخية الغربية. ويعتبر د. حنفي العلمانية -في مناسبات أخرى- رؤية كاملة للكون تغطي كل مجالات الحياة وتزود الإنسان بمنظومة قيمية ومرجعية شاملة، مما يعطيها قابلية للتطبيق على مستوى العالم. من جانب آخر، يتحدث د.حسن حنفي عن الجوهر العلماني للإسلام -الذي يراه ديناً علمانياً للأسباب التالية:
1- النموذج الإسلامي قائم على العلمانية بمعنى غياب الكهنوت، أي بعبارة أخرى المؤسسات الدينية الوسيطة.
2- الأحكام الشرعية الخمسة، الواجب والمندوب والمحرّم والمكروه والمباح، تعبّر عن مستويات الفعل الإنساني الطبيعي، وتصف أفعال الإنسان الطبيعية.
3- الفكر الإنساني العلماني الذي حول بؤرة الوجود من الإله إلى الإنسان وجد متخفٍ في تراثنا القديم عقلاً خالصًا في علوم الحكمة، وتجربة ذوقية في علوم التصوف، وكسلوك عملي في علم أصول الفقه.
و يمكن الرد على تصور علمانية الإسلام، بأنه ثمة فصل حتمي للدين والكهنوت عن الدولة في كل المجتمعات الإنسانية تقريباً، إلا في المجتمعات الموغلة في البدائية، حيث لا يمكن أن تتوحد المؤسسة الدينية و السياسية في أي مجتمع حضاري مركب. وفي الواقع، هذا التمايز مجرد تمايز المجال السياسي عن الديني، لكن تظل القيمة الحاكمة و المرجعية النهائية للمجتمع (و ضمن ذلك مؤسسات صنع القرار) هي القيمة المطلقة (أخلاقية-إنسانية-دينية) و هي مرجعية متجاوزة للدنيا و للرؤية النفعية.
مقال قديم لنا نشر بتاريخ : 01-17-2007, 12:44 AM على عدة مواقع وشبكات عربية.

0 Comments